عن الشيخ

سيرتي الذاتية في طلب العلم

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العليِّ العظيم، أما بعد:

اسمي ونسبي

فأنا أبو عبد الرحمن رشاد بن أحمد بن ناجي بن علي بن محسن بن حسن بن صالح الشرعبي الـجُحافي الضالعي، من قرية الـحَقْل إحدى قرى مديرية جُحاف محافظة الضالع، نزل جدِّي الأقرب –ناجي-  رحمه الله وغفر له، من هذه القرية وهو في سنِّ الشباب، واستوطن منطقة حَبِــيـْـل جُبَارِي في مدينة الضالع، وتزوَّج منها، وبها كان مولدي، ومولد والِدي حفظه الله، وأحسن له الخاتمة.

متزوِّج بزوجتين مؤمنتَين غافلتَين حافظتَين لكتاب الله، وكثيرٍ من سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حفظهما الله وبارك فيهما، ولي منهما إلى تاريخ كتابة هذه الأسطر تسعةٌ من الولد، ثلاثةٌ من الذكور، وستٌّ من الإناث، وأسأل الله أن يزيدني من فضله، وأن يبارك لي فيما رزقني.

لقب الشرعبي

أمَّا عن هذا اللقب فيتساءل بعض الإخوة، هل هذا اللقب نِسبَةٌ إلى بلاد (شرعب) من محافظة تعز؟ وقد حاولتُ أن أصل إلى نتيجة في ذلك فلم يتبيَّن لي، هل كان أحد أجدادي من بلاد شرعب ونزل في بلاد جُحاف، أو أنه لقبٌ لشَبَهٍ، أو موافقةٍ في مهنة، أو صُحبة، أو نحو ذلك، لم يتبيَّن لي ذلك، ولم يكن آبائي يعرفون ذلك، فقد سألتُ جدي رحمه الله وغفر له عن ذلك، فأخبرني أنه يعرفُ أنَّ جَدَّهُ من مواليد قرية الحقل في جبل جُحاف.

علما أنَّ أُسرة الشرعبي موجودة في أكثر من قرية من قرى جُحاف، فمن القرى التي يتواجدون فيها قرية (الـحَقْل) وقرية (العُبُل) وقرية (الـــحَيْفة) فالله أعلم، وعلى كلِّ حال فالبلدان لا تُزكِّي أحدا، ولا ترفعه أو تَضَعُه، وإنما يزكِّي الإنسان عملُه الصالح، وطاعته لله سبحانه وتعالى.

مولدي ونشأتي

 توفِّيَت أُمِّي -رحمها الله وغفر لها ورفع درجتها في المهديين- وأنا في نحو الثالثة من عمري، وقامت على تربيتي عمـاتي جزاهن الله عني خير الجزاء، فنشأتُ في تربية والدي وعماتي على أحسن حال ولله الحمد، وكان والدي –حفظه الله وأحسن له الخاتمة وغفر له ورحمه- حريصا أشدَّ الحرص على نشأتنا نشأة صالحة، وإبعادنا عن جلساء السوء، وتوجيهنا إلى المساجد وحلقات العلم، وأَمْرِنا بأداء الفرائض والحرص عليها، بل وتشجيعنا على نوافل العبادات وتعويدنا عليها، فتربينا على ذلك منذ الصغر، والحمد لله.

طلبي للعلم

حفظتُ وأنا في سنِّ الحادية عشرة أو الثانية عشرة إلى سورة مريم –بدءً من سورة الناس-، ثم توقَّفت عن الحفظ عدَّة سنوات حتى أتممتُ حفظ القرآن وأنا في السابعة عشرة أو الثامنة عشرة من عمري، على يد الأستاذ الفاضل أبي يحيى وليد بن عبد الله بن محمد جُبُاري جزاه الله خيرا، وبارك فيه، وفي أهله وذريته، الذي لا يزال معنا إلى يومنا هذا في دار الحديث بالضالع صابرا محتسبا في تعليم الأولاد كتاب الله.

وكان ذلك في بلدي في المسجد الذي بجوار منزلنا، وكنتُ أرغبُ في الرحلة إلى دُوْرِ الحديث منذ صغري، ولكن لم يكن والدي –جزاه الله عني خير ما جزى به أبًا عن ابنه- يأذن لي بذلك، لأني لا أزال صغيرا في السن، فبقيتُ في بلدي أدرس في المدارس الحكومية، وألازم المسجد في سائر الأوقات، وكانت عندي حَلْقة أُحفِّظ فيها الأولاد القرآن الكريم بين المغرب والعشاء في المسجد الذي بجوار منزلنا، فبقيتُ على ذلك ما شاء الله، وأنا في تلك الفترة أجدُ نهمة شديدة للعلم والحفظ والقراءة، حتى أني كنتُ إذا سمعتُ أحدا يحثُّ على العلم الشرعي ويُرَغِّبُ فيه أبكي بكاء شديدا؛ وأتحسَّر لأني لم أستطع الوصول إليه، ولم أجد أحدا في بلدنا في ذلك الحين آخذُ على يديه العلم.

فأقبلتُ على الحفظ وسماع الدروس المسجَّلة في الأشرطة [وكانت قليلة ونادرة في تلك الفترة] وقراءة بعض الكتب، فحفظتُ في هذه الفترة بعد حفظ القرآن الأربعين النووية وبعض رياض الصالحين وبعض المتون العلمية، واستمعتُ إلى شرح الآجرومية للإمام ابن عثيمين رحمه الله ولـخَّصتُ كثيرا منه، وهكذا كثير من أشرطة الإمام الألباني رحمه الله ولــخَّصت كثيرا منها، وهكذا استمعتُ شروح بعض الرسائل في التوحيد لبعض علماء نجد والحجاز وبعض طلاب العلم في دماج، وهكذا قرأت بعض كتاب (تيسير العلام شرح عمدة الأحكام) للشيخ عبد الله البسام رحمه الله وكان أولَّ كتاب اشتريتُه في حياتي، وهكذا قرأت كتاب (الوجيز في فقه السنة والكتاب العزيز) تأليف عبد العظيم بن بدوي بن محمد، وكان هذا الكتاب أكثر الكتب التي تعجبني، وأُكثِرُ قراءتها في ذلك الوقت، لسهولته، وحُسْنِ ترتيبه، أهداه لي بعض الإخوة جزاه الله خيرا، وهكذا غيرها من الكتب.

كان هذا وأنا طالب في الثانوية، وبحمد الله كانت لنا حلقة علمية في المدرسة وقت الاستراحة مع مجموعة من طلاب المدرسة الذين يحبون العلم، قرأنا في هذه الحلقة كثيرا من شرح رياض الصالحين للإمام ابن عثيمين رحمه الله، وبعض الرسائل في التوحيد.

ومما أحمدُ الله عليه أن حفظني في هذه الفترة من الأهواء والحزبيات المخالفة لما كان عليه السلف، فنشأتُ على السنة وعلى اتباع طريق السلف الصالح من أولَّ يوم، ويسَّر الله لي بجليس صالح وأخٍ ناصح [وهو الأخ عبد الغني بن مساعد حسن الحاج، من أهالي منطقة دار الـحَيْد في مدينة الضالع] فكان يُحذِّرني من أصحاب الحزبيات والجمعيات ويُهدي لي بعض الكتب التي تبيِّن طريق هؤلاء، فجزاه الله خيرا، وشفاه مما هو فيه من أمراض، وأسأل الله أن يثبتني على الإسلام والسنة حتى الممات.

وما أن أكملتُ الدراسة الثانوية إلا وطلبتُ من والدي أن يأذن لي بالرحلة لطلب العلم في دار الحديث بدماج، فقال لي: دماج بعيد، ولكن اذهب إلى إب، فرحلتُ إلى مركز مفرق حُبيش في محافظة إب بعد انتهائي من الامتحانات الثانوية بثلاثة أيام في شهر جمادى الأولى 1425هــ ولي من العمر تسعة عشر عاما، وكان القائم على المركز حينئذ الشيخ عبد العزيز بن يحيى البرعي وفقه الله، فبقيتُ هناك نحو عام، ودرستُ خلال هذا العام بعض كتب العقيدة والتجويد والنحو وأصول الفقه على يد بعض المدرسين الذين كانوا هناك، إضافة إلى الدروس العامة التي كانت تُلقى في ذلك الوقت في صحيح البخاري وصحيح مسلم والروضة الندية شرح الدرر البهية لصديق حسن خان وتفسير ابن كثير، فأخذتُ شيئا من هذه الكتب في الفترة التي قضيتها هناك، ولا يزال قلبي معلقا بالرحلة إلى دار الحديث بدماج، حتى كان العام الذي يليه، ففي ربيع الآخر 1426هـ كتب الله لي الرحلة إلى قلعة العلم في ذلك الوقت دار الحديث بدماج، وبهذا تحقق لي الأمر الذي لا أزال أنتظره وأتمناه، والحمد لله أولا وآخرا على ما أولاني ومنَّ به عليَّ.

فوصلتُ إلى هذه الدار العظيمة وكان القائم عليها في ذلك الوقت شيخنا الناصح الأمين الصابر المحتسب أبا عبد الرحمن يحيى بن علي الحجوري حفظه الله وبارك فيه، ووفقه وسدَّده، ودفع عنه كلَّ سوء، [وأما الشيخ الإمام أبو عبد الرحمن مقبل بن هادي الوادعي فلم أُدْرِكْهُ ولم أطلب العلم على يديه، بل كانت رحلتي إلى دماج بعد وفاته بنحو أربع سنين، وقد استفدتُ من كتبه وما خَلَّفه من العلم، وهكذا رأيته رؤية حين زارنا إلى بلاد الضالع وحضرت له محاضرة، ولم أذكر ذلك جيدا لصغر سني حين زيارته فرحمه الله وغفر له ورفع درجته وجمعنا به في جنات النعيم] فبقيتُ في هذا الدار إلى أن أَخرجَنا الرافضة الحوثيون منها ظلما وعدوانا في يوم الأربعاء 14ربيع الأول 1435هـ، فكان إجمالي الفترة التي بقيت فيها قريبا من تسع سنوات، استفدت فيها خيرا كثيرا ولله الحمد، فدرستُ على شيخنا يحيى حفظه الله صحيح البخاري، وصحيح مسلم، وتفسير ابن كثير، والجامع الصحيح مما ليس في الصحيحين للإمام الوادعي، والسنن الصغرى للبيهقي، وجامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر، واقتضاء الصراط المستقيم لشيخ الإسلام ابن تيمية، والعقيدة السفارينية، وتائية شيخ الإسلام في الرد على القدرية، ومقدمة ابن أبي زيد القيرواني في الاعتقاد، وألفية مفردات الإمام أحمد المسمَّاه: (النظم المفيد الأحمد في مفردات الإمام أحمد) لعز الدين محمد بن علي العمري الخطيب المقدسي، وغيرها من الكتب النافعة، إضافة إلى ما استفدناه من شيخنا الصابر المحتسب حفظه الله من النصائح والتوجيهات والإرشادات التي نفعني الله بها كثيرا، فكانت سببا في استمراري في طلب العلم وحرصي عليه، وثباتي على طريق السلف، فأسأل الله أن يجزيه عني خير ما جزى به معلما عن تلميذه، وأن يرزقني مكافأة إحسانه وتعليمه لي.

وهكذا أخذتُ شيئا مباركا من الدروس الخاصة التي تُدَرَّس في دار الحديث مما يلقيه المشايخ وطلبة العلم في تلك الدار، فمن ذلك لا على سبيل الحصر:

في العقيدة والتوحيد: ثلاثة الأصول، والقواعد الأربع، والأصول الستة، ونواقض الإسلام، وكتاب التوحيد، كلها للإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب النجدي، وفتح المجيد في شرح كتاب التوحيد لعبد الرحمن بن حسن آل الشيخ حفيد الإمام النجدي، وتجريد التوحيد للمقريزي، وتطهير الاعتقاد للصنعاني، والدرُّ النضيد للشوكاني، ولمعة الاعتقاد لابن قدامة المقدسي، والقواعد المثلى لابن عثيمين، والواسطية لشيخ الإسلام المتن والشرح لمحمد خليل هرَّاس، والطحاوية بشرح ابن أبي العز، وصريح السنة لابن جرير الطبري، وعقيدة السلف وأصحاب الحديث لأبي عثمان الصابوني.

وفي الفقه وأصوله: بعض الدراري المُضِيَّة للشوكاني، وصفة الصلاة للإمام الألباني، والأصول من علم الأصول لابن عثيمين، ونظم الورقات للعمريطي، ومذكرة أصول الفقه للشنقيطي.

وفي اللغة: ففي النحو التحفة السنية في شرح الآجرومية لمحمد محيي الدين عبد الحميد، ومتممة الآجرومية لمحمد بن محمد الحطَّاب الرعيني، وشرح قطر الندى لابن هشام الأنصاري، وموصل الطلاب إلى قواعد الإعراب لخالد الأزهري، وفي الصرف فتح الودود اللطيف في جمع وترتيب أهم دروس التصريف للشيخ فتح القدسي، ولامية الأفعال لابن مالك مع شرح ولده بدر الدين، وشذا العّرْف في الصرف لأحمد بن محمد الحملاوي، وفي البلاغة كتاب البلاغة الواضحة، وفي الإملاء تحفة المراكز العلمية في القواعد الإملائية لعبد القوي الحزمي، والمفرد العلم في رسم القلم للسيد أحمد الهاشمي.

وفي مصطلح الحديث: اختصار علوم الحديث لابن كثير المشهور بــ (الباعث الحثيث)، ونزهة النظر للحافظ ابن حجر، والتقييد والإيضاح للإمام العراقي، وضوابط الجرح والتعديل لعبد العزيز بن محمد العبد اللطيف، وكتاب الموقظة للإمام الذهبي.

وفي المواريث –الفرائض-: الرائد في علم الفرائض لمحمد العيد الخطراوي، والمنظومة الرحبيّة المسماة: بغيه الباحث عن جُمَل الموارث. لموفق الدين أبي عبد الله الرحبي، وتسهيل الفرائض لابن عثيمين.

وغير ذلك من الكتب النافعة التي منَّ الله عليَّ بدراستها في تلك الدار.

وفي دراستي لهذه الدروس الخاصة كنتُ أجمع بين ثلاثة إلى أربعة دروس في فنون مختلفة في أغلب الأحيان، وفي بعض الأحيان ربما تصل إلى خمسة، إضافة إلى ما عندي من الدروس العامة، وكذلك إضافة إلى المحفوظات حفظا ومراجعة، وبحمد الله لم أكن أحضر درسا إلا وأعتني به من حيث تقييد الفوائد حتى اجتمع عندي من ذلك دفاتر وكراريس كثيرة، وأيضا من حيث مراجعة الدرس فأعتني بذلك وأَهْتَمُّ به ولا أهمله، وفي كثير من الأحوال كانت تكون لي حلقة مع بعض الزملاء الذين يدرسون هذا الكتاب، نراجع درس اليوم الأول في اليوم الثاني قبل أن يأتي المدرِّس، فنستفيد بذلك فائدة عظيمة يترسخ درس اليوم الأول، ويتَّضح لنا بعض ما قد خفي علينا أثناء الدرس، وأيضا تظهر لنا إشكالات واستفسارات نطرحها على المدرِّس وقت الدرس، فتتم الفائدة، ويترسخ الفهم، فلا ننتهي من الكتاب إلا وقد فهمناه واستفدنا منه وتهيأنا لما بعده، وهذه طريقة مفيدة أنصح إخواني طلاب العلم بسلوكها، وسيجدون من فوائدها الشيء الكثير.

وكان رفيقي وزميلي في دار الحديث بدماج دراسةًّ وحفظاً ومراجعةً وتسميعاً أخي وصاحبي أبا عبد الله مأمون بن عبد الله بن محمد بن صالح جُبُاري الضالعي رحمه الله وغفر له وتقبَّله في الشهداء، فقد كان نعم الزميل والصاحب والرفيقِ منذ الطفولة، ومن أيام الدراسة في المدراس وبعدها في دماج، ولم نفترق في ذلك كله حتى أتاه اليقين، فقُتل مظلوما تحت وطأة حصار الرافضة لدار الحديث بدماج مُقبلا غير مُدبِر في يوم الأربعاء 25/ذي الحجة/1434هـ. وقد كتبتُ له ترجمة مفردة بعنوان: $قرة العيون بذكر نبذة مختصرة من سيرة أبي عبد الله مأمون# وإلى الآن لم أنشرها، أسأل الله أن ييسر بذلك، وأنا أنصح طلبة العلم بالحرص على المزاملة في طلب العلم، فيتَّخذ طالبُ العلم له زميلا مجتهدا حريصا على العلم، فإن هذا مما يعينه في طلب العلم ويُنشِّطه عليه، لأنه إذا كان مرتبطا بزميل في الحفظ والمراجعة والتسميع ينشط على هذه الأمور ويقوم بها، بخلاف ما إذا لم يكن مرتبطا بذلك ربما يتهاون بالأمر حتى يمضي عليه كثير من الوقت دون ثمرة، والتوفيق من الله سبحانه.

جوانب مهمة

ومن الجوانب المهمة التي وفقني الله لها في طلبي للعلم جانب الحفظ للمتون الحديثية، وكذاك المتون العلمية المنظومة والمنثورة، فكان مما يسَّر الله تعالى لي حِفظَه في دار الحديث بدماج، بمُزَامَلَةِ أخي مأمون رحمه الله:

1. كتاب ”رياض الصالحين“ للإمام النووي رحمه الله، وقد كنتُ بدأتُ في حفظه وأنا لا أزال في بلدي، ثم أتممتُ حفظه في دار الحديث بدماج في أواخر شهر شعبان من عام 1427هـ

2. ثم شرعتُ في حفظ صحيح الإمام مسلم رحمه الله بدءً من تاريخ 24 ذي الحجة 1427هـ وانتهيت منه في تاريخ 6 صفر 1429هـ، وكان أخي مأمون رحمه الله يحفظ أيضا في هذين الكتابين، وكنا نتعاون في تسميع الحفظ والمراجعة، وكان مقدار الحفظ في غالب الأيام عشرة أحاديث، مع تسميع مراجعة خمسين حديثا من المحفوظات السابقة، هذا هو المقرر الرسمي الذي كنَّا نسير عليه، إلا إذا كانت الأحاديث قصيرة أو سهلة فنحفظ أكثر، أو كانت طويلة فنحفظ أقلَّ، ورأينا أن هذه الطريقة طريقة جيدة ليس فيها استعجال يؤدي إلى الإهمال وعدم المراجعة، كذلك ليس فيها تقصير وضياع للوقت بدون فائدة، لأننا رأينا بعض طلبة العلم يحفظ في اليوم أربعين أو خمسين حديثا ولكن لا يتمكن من مراجعتها فتذهب الفائدة، والبعض الآخر يفرط وتمضي عليه الأيام دون حفظ شيء، فالحمد لله على توفيقه لنا، وما يسَّره لنا من الأسباب في ذلك.

3. ثم شرعتُ في حفظ الأحاديث التي انفرد بها الإمام البخاري رحمه الله عن الإمام مسلم رحمه الله، معتمدا في ذلك على كتاب ”تلبية الأماني بأفراد الإمام البخاري“ بدءً من تاريخ 6 ربيع الأول 1429هـ وانتهيت منه في تاريخ 26 جمادى الأولى 1429هـ، وكان قصدي بذلك أن أجمع حفظ الصحيحين فتمَّ ذلك والحمد والفضل لله سبحانه، وكان اختيار أخي مأمون رحمه الله أن يحفظ كتاب ”الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين“ للإمام الوادعي رحمه الله، فكنتُ أنا أسمِّع في أفراد البخاري وهو في الصحيح المسند.

4. ثم شرعتُ في حفظ كتاب ”بلوغ المرام“ للحافظ ابن حجر رحمه الله، فتمَّ ذلك والحمد لله في نحو أربعين يوما، وكانت كثير من أحاديثه محفوظة عندي من الكتب التي قبله، وتأريخ بَدْئِي فيه وانتهائي منه مكتوب في آخر نسختي من بلوغ المرام ولم أجدها في يومي هذا حتى أُقَيِّد ذلك.

وهكذا منَّ الله عليَّ بحفظ بعض المتون العلمية في فنون مختلفة، فمنها لامية شيخ الإسلام ابن تيمية، وحائية ابن أبي داود، والعقيدة الواسطية لشيخ الإسلام ابن تيمية، والعقيدة الطحاوية لأبي جعفر الطحاوي، والأصول الثلاثة وكتاب التوحيد للإمام محمد بن عبد الوهاب النجدي، ومُلْحَة الإعراب في النحو للإمام الحريري، ونظم الورقات في أصول الفقه للعِمْرِيْطِي، والمنظومة الرحبية في الفرائض لأبي عبد الله الرَّحَبي، والبيقونية في مصطلح الحديث، وكنتُ شرعتُ في حفظ ألفية ابن مالك في النحو ولم أكملها بسبب أنها كانت تأخذ عليَّ كثيرا من الوقت، فرأيت أنَّ حفظ الأحاديث ومراجعتها ومواصلة الدروس أهم عندي فتركتُ إتمامها، وكان أغلب ذلك أيضا بمزاملة أخي مأمون رحمه الله، وهكذا في حفظ المتون لم نكن بالمستعجلين ولا بالمفرِّطين، فإن كان المتن نظما حفظنا كلَّ يوم ما بين عشرة إلى خمسة عشرة بيتا مع مراجعة المحفوظات السابقة، وإن كان نثرا حفظنا نحو هذا المقدار، وفي يوم الجمعة نُسمِّع المتون المحفوظة، فمثلا في هذه الجمعة نُسمِّع العقيدة الواسطية، والجمعة التي تليها العقيدة الطحاوية، والتي تليها نظم الورقات ….. وهكذا.

مشايخي

من أبرز مشايخي في دار الحديث بدماج:

1) شيخنا الناصح الأمين أبو عبد الرحمن يحيى بن علي الحجوري حفظه الله.

2) الشيخ أبو عبد الله محمد بن علي بن حزام البعداني حفظه الله وهو أكثر من استفدت منه من مشايخي بعد شيخنا يحيى، وكان مما درسته على يديه فتح المجيد في شرح كتاب التوحيد، وشرح الطحاوية لابن أبي العز، ومذكرة في أصول الفقه للشنقيطي، والتقييد والإيضاح شرح مقدمة ابن الصلاح للحافظ العراقي، وقد استفدت من طريقة تدريسه وبحثه وإلقائه، وكانت دراستي على يديه مفتاحا لكثير من الفوائد، فالحمد لله رب العالمين.

3) الشيخ أبو عبد الرحمن جميل بن عبده الصلوي أخذت عنه بعض الدروس العامة في دماج في الوقت الذي كان ينوب فيه عن شيخنا يحيى.

4) الشيخ أبو عبد الله زايد بن حسن الوصابي درست على يديه بعض كتاب الدراري المضية للإمام الشوكاني.

5) الشيخ أبو بلال خالد بن عبود الحضرمي درست على يديه كتاب موصل الطلاب لخالد الأزهري.

6) الشيخ أبو عبد الرحمن خليل بن أحمد العِمراني العديني درست على يديه شرح قطر الندى لابن هشام، وبعض الكتب في الصرف.

هؤلاء هم أبرز مشايخي الذين أخذت عنهم العلم في دار الحديث بدماج، فأسأل الله أن يجزيهم عني خيرا الجزاء، وأن يثبتني وإياهم على الإسلام والسنة حتى نلقاه.

البحث والتحصيل والتدريس

وفي عام 1430هـ درستُ البحث والتخريج وبدأتُ أُطبِّق ذلك على أحاديث مفردة، فآخذُ الحديث وأجمعُ طرقه وشواهده وأحكم عليه على ضوء ما تلقيته من قواعد ومسائل، ثم أعرض ذلك على بعض مشايخي لقصد تقويمي إن أخطأت وإرشادي إلى الطريق الصحيح، وكان أحسن من يتعاون معي في ذلك شيخنا أبا عبد الله محمد بن علي بن حزام البعداني جزاه الله خيرا وبارك فيه، وكان أولَّ حديث جمعتُ طرقه هو حديث جابر ا مرفوعا «الضَّبُعُ صَيْدٌ فَإِذَا أَصَابَهُ الْـمُحْرِمُ فَفِيهِ كَبْشٌ مُسِنٌّ وَيُؤْكَلُ». فبقيتُ على ذلك ما شاء الله حتى اجتمع عندي أحاديث كثيرة لا تزال محفوظة عندي في مسودَّة، ثم بدا لي أن آخذ كتابا مختصرا أُخَرِّج أحاديثه وأعلِّق عليه، فأجمع بين فائدتين: أخدمُ الكتاب، وأطبِّق القواعد التي دَرستُها حتى أتمكَّن من البحث والتخريج وأتعرَّف على الكتب، وكنتُ أحرص على أن يكون الكتاب الذي أبدأ فيه مختصرا، فوقع اختياري على كتاب تفسير سورة الإخلاص للحافظ ابن رجب رحمه الله، فقمتُ بحمد الله بتخريج أحاديثه وآثاره والتعليق على مواضع منه، وانتهيت من ذلك في شعبان 1431هـ، فاستفدت بذلك فائدة عظيمة، تعرَّفت أولا على كتب الحديث والتراجم والعلل والتخاريج والمراسيل ونحوها، ثم تعوَّدت على جمع الطرق والشواهد وترتيبها، واستفدتُ كثيرا من كتب الإمام الألباني رحمه الله.

ثم في هذا العام نفسه 1431هـ أشار عليَّ شيخنا أبو عبد الله محمد بن علي بن حزام البعداني جزاه الله خيرا وبارك فيه، بتحقيق وتخريج كتاب الروح للإمام ابن القيم رحمه الله تعالى، فبدأتُ في ذلك في 19 شوال 1431هـ وانتهيت منه في 5 جمادى الآخرة 1432هـ، ثم يسَّر الله لي بعد ذلك مقابلة الكتاب على بعض المخطوطات، وهو الآن مرصوص جاهز للطباعة، أسأل الله أن ييسر طباعته ونشره والنفع به.

وبعد أن انتهيتُ منه بعشرين يوما بدأت في 25 جمادى الآخرة 1432هـ بالكتابة في الآداب الشرعية، وأنا عازم على موسوعة شاملة موسّعة في الآداب الشرعية التي يُشرع للمسلم مراعاتها في حياته كلها، فخرجنا من دماج ولم أنتهِ منها، وأسأل الله أن ييسر لي إتمامها، وأن ينفع بها.

وفي أثناء ذلك كنتُ ألقي بعض الدروس على إخواني طلبة العلم في دار الحديث بدماج، ففي عام 1432هـ قمتُ بتدريس كتاب التحفة السنية في شرح الآجرومية، ثم بعدها كتاب متممة الآجرومية، ثم شرح قطر الندي، ثم شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك وانتهيتُ من تدريسه في عام 1434هـ، ثم درَّست بعد ذلك بعض الدروس في الصرف.

ثم في الثاني من شهر محرم 1434هـ فتحتُ درسا في شرح المنظومة البيقونية وتم في 29 من شهر محرم 1434هـ، ثم بعده درسا في الباعث الحثيث بدءً من 6 صفر 1434هـ، ثم بعده درسا في شرح نزهة النظر بدءً من 13 ربيع الآخر 1434هـ، ثم بعده درسا في تدريب الراوي بعد انتهائي من النزهة مباشرة، وخرجنا من دماج ولم أكمل تدريس هذا الكتاب.

وهكذا لا أزال مستمرا في طلب العلم والبحث والتحصيل والتدريس في دار الحديث بدماج، وأخرج دعوة إلى الله بين الحين والآخر، وغالبا ما يكون خروجي في شهر رمضان فأخرج قبل رمضان بأسبوع وأرجع إلى دماج بعده بنحو نصف شهر، أقضي هذه الفترة في الدعوة وإقامة الدروس في مساجد مدينة الضالع، فكنتُ أدرِّس في مسجد حبيل جباري الذي بجوار منزلنا، وفي مسجد بلال بن رباح في مدينة الضالع، وفي مسجد الإمام أحمد في مدينة الضالع، وفي السنوات الأخيرة كنتُ أنزل في مسجدي الذي أنا فيه الآن في منطقة الدرجة مدينة الضالع، وكان هذا هو شأني في غالب السنين، إلا في رمضان عام 1433هـ فنزلتُ في بلاد أبين في منطقة الحصن وأقمتُ في جامعها الكبير شهرا وبضعة أيام كان فيها خير كثير ودعوة مباركة، حتى شاء الله سبحانه وقدَّر –وله الحكمة البالغة- أن نُخرَج من دار الحديث ظلما وعدوانا -من قِبل الرافضة المعتدين ومن يدفع بهم- في يوم الأربعاء 14 ربيع الأول 1435هـ، فأُخْرِجْنا منها وقلوبنا معلَّقة بها، أُخْرِجْنا منها ودموعنا تسيل ألـماً وحسرة أنْ فارقنا الدار التي تربينا وتعلمنا فيها، أنْ فارقنا الدار التي قضينا فيها أجمل أيامنا وأسعد لحظات حياتنا، ولله الحكمة البالغة، والله يعلم ونحن لا نعلم، فالحمد لله  على ما قدَّره وقضاه.

وبعد خروجنا من دماج رجعتُ إلى بلدي الضالع ومكثتُ في مسجدي الكائن في منطقة الدرجة من مدينة الضالع أُدرِّس فيه بما يسَّره الله، ومع من يسَّره الله من طلاب العلم، وأواصل في بحوثي، إلا أنها فاتتني المراجع الكثيرة التي كانت في مكتبة دار الحديث بدماج العامرة، والتي كنتُ أستفيد منها كثيرا، وهكذا اتنقَّل في الدعوة إلى الله تعالى في قرى الضالع، وفي محافظات أخرى، حتى نهاية عام 1346هـ وبداية عام 1437هـ، وبعد حربٍ شديدة جرتْ بين المسلمين في بلاد الضالع وبين الرافضة المعتدين، انتهت هذه الحرب بالنصر الـمُؤَزَّر للمسلمين في بلاد الضالع، وتم طرد الرافضة وإبعادهم إلى مناطق بعيدة، فبعد ذلك أقبل طلاب العلم من قرى الضالع ومناطق مجاورة لمحافظة الضالع يرغبون في طلب العلم فتم افتتاح دار الحديث السلفية للعلوم الشرعية بالضالع، فتوافد طلاب العلم إليها، وأقبلوا من كل مكان، وهكذا وفد إليها كثير من المدرِّسين المستفيدين في كثير من علوم الشرعية، فقامت بفضلٍ من الله وتوفيقٍ منه وحده سبحانه، وهي الآن قائمة على أحسن حال، فيها الإقبال على العلم والانقطاع له، وفيها الدعوة العظيمة والخير الكثير، فيها تُدرَّس أغلب علوم الشريعة، ففيها يُدَرَّس القرآن وتجويده وتفسيره وأصول تفسيره، وكذلك الحديث النبوي وشروحه وأصوله، وكذلك الفقه الشرعي وأصوله، وكذلك العقيدة بمستويات مختلفة، وكذلك علوم اللغة العربية من نحو وصرف وبلاغة وإملاء وخط، وكذلك دروس في الآداب والأخلاق والفرائض والحساب والسيرة، وغير ذلك من العلوم النافعة، وهكذا بفضل الله تم إنشاء مدرسة للأولاد تابعة لدار الحديث في عام 1440هـ فيها دروس نافعة ومقررات مفيدة في علم التجويد والتفسير –إضافة إلى حفظ القرآن- والقراءة والكتابة والإملاء والنحو والحساب والفقه والحديث والآداب والسيرة، كلُّ هذا قائم بفضل الله سبحانه وحده، ثم بما يسَّره الله من جهود مباركة وتعاون من القائمين على هذا الدار، والمدرِّسين فيها، فنسأل الله جلَّ وعلا بأسمائه وصفاته أن يحفظ هذا الخير وأن يبارك فيه، وأن ينفع به الإسلام والمسلمين.

هذه نبذة تعريفية مختصرة عن حياتي وسيرتي في طلب العلم، ولم أكن أحبُّ كتابة ذلك ولا نَشْرَه، ولم أُفكِّر بذلك، حتى كان الطلب من إخواننا بارك الله فيهم، وقد حرصتُ على أن أذكر فيها نصائح وتوجيهات لطلاب العلم، عسى أن ينفع الله بها من شاء من خلقه.

وفي الختام أشكر الله سبحانه وتعالى، وأحمده وأثني عليه، فله الحمد والثناء أولا وآخرا، أحمد الله سبحانه ملءَ السموات وملءَ الأرض وملءَ ما شاء من شيء بعد، أحمد الله سبحانه عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته، فلولا فضل الله ونعمته عليَّ ما عرفتُ الخير ولا سلكتُ طريقه.

واللهَ أسأل أن يعفو عني، ويغفر لي ذنوبي، ويعاملني بلطفه، ويصلح لي شأني كلَّه، ولا يكلني إلى نفسي طرفة عين، كما أسأله سبحانه أن يغفر لوالدي وذريتي وأهل بيتي ومشايخي وكل من كان له عليَّ فضل في طلبي للعلم.

والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

كتبه/

أبو عبد الرحمن

رشاد بن أحمد الضالعي

في دار الحديث السلفية للعلوم الشرعية بالضالع

في يوم الإثنين الخامس من شهر جمادى الآخرة لعام اثنين وأربعين وأربعمائة وألف من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم 5 / 6/ 1442هـ